كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقد كان يجد النصر دون الفتح كبدر، والفتح دون النصر كإجلاء بني النضير، فإنه فتح البلد لكن لم يأخذ القوم، أما يوم فتح مكة اجتمع له الأمران النصر والفتح، وصار الخلق له كالأرقاء حتى أعتقهم القول الثاني: أن المراد فتح خيبر، وكان ذلك على يد على عليه السلام، والقصة مشهورة، روي أنه أستصحب خالد بن الوليد، وكان يساميه في الشجاعة، فلما نصب السلم قال لخالد: أتتقدم؟ قال: لا، فلما تقدم على عليه السلام سأله كم صعدت؟ فقال: لا أدري لشدة الخوف، وروي أنه قال: لعلي عليه السلام ألا تصارعني، فقال: ألست صرعتك؟ فقال: نعم لكن ذاك قبل إسلامي، ولعل عليًا عليه السلام إنما امتنع عن مصارعته ليقع صيته في الإسلام أنه رجل يمتنع عنه على، أو كان على يقول صرعتك حين كنت كافرًا، أما الآن وأنت مسلم فلا يحسن أن أصرعك القول الثالث: أنه فتح الطائف وقصته طويلة والقول الرابع: المراد النصر على الكفار، وفتح بلاد الشرك على الإطلاق، وهو قول أبي مسلم والقول الخامس: أراد بالفتح ما فتح الله عليه من العلوم، ومنه قوله: {وَقُل رَّبّ زِدْنِى عِلْمًا} [طه: 114] لكن حصول العلم لابد وأن يكون مسبوقًا بانشراح الصدر وصفاء القلب، وذلك هو المراد من قوله: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله} ويمكن أن يكون المراد بنصر الله إعانته على الطاعة والخيرات، والفتح هو انتفاع عالم المعقولات والروحانيات.
المسألة الثانية:
إذا حملنا الفتح على فتح مكة، فللناس في وقت نزول هذه السورة قولان:
أحدهما: أن فتح مكة كان سنة ثمان، ونزلت هذه السورة سنة عشر، وروي أنه عاش بعد نزول هذه السورة سبعين يومًا، ولذلك سميت سورة التوديع والقول الثاني: أن هذه السورة نزلت قبل فتح مكة، وهو وعد لرسول الله أن ينصره على أهل مكة، وأن يفتحها عليه، ونظيره قوله تعالى: {إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرءان لَرَادُّكَ إلى مَعَادٍ} [القصص: 85] وقوله: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله والفتح} يقتضي الاستقبال، إذ لا يقال فيما وقع: إذا جاء وإذا وقع، وإذا صح هذا القول صارت هذه الآية من جملة المعجزات من حيث إنه خبر وجد مخبره بعد حين مطابقًا له، والإخبار عن الغيب معجز.
فإن قيل: لم ذكر النصر مضافًا إلى الله تعالى، وذكر الفتح بالألف واللام؟
الجواب: الألف واللام للمعهود السابق، فينصرف إلى فتح مكة.
{وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2)} فيه مسائل:
المسألة الأولى:
{رأيت} يحتمل أن يكون معناه أبصرت، وأن يكون معناه علمت، فإن كان معناه أبصرت كان يدخلون في محل النصب على الحال، والتقدير: ورأيت الناس حال دخولهم في دين الله أفواجًا، وإن كان معناه علمت كان {يدخلون في دين الله} مفعولًا ثانيًا لعلمت، والتقدير: علمت الناس داخلين في دين الله.
المسألة الثانية:
ظاهر لفظ الناس للعموم، فيقتضي أن يكون كل الناس كانوا قد دخلوا في الوجود مع أن الأمر ما كان كذلك الجواب: من وجهين الأول: أن المقصود من الإنسانية والعقل، إنما هو الدين والطاعة، على ما قال: {وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ} [الذاريات: 56] فمن أعرض عن الدين الحق وبقي على الكفر، فكأنه ليس بإنسان، وهذا المعنى هو المراد من قوله: {أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] وقال: {آمنوا كما آمن الناس} [البقرة: 13] وسئل الحسن بن علي عليه السلام من الناس؟ فقال: نحن الناس، وأشياعنا أشباه الناس، وأعداؤنا النسناس، فقبله على عليه السلام بين عينيه، وقال: الله أعلم حيث يجعل رسالته.
فإن قيل: إنهم إنما دخلوا في الإسلام بعد مدة طويلة وتقصير كثير، فكيف استحقوا هذا المدح العظيم؟.
قلنا: هذا فيه إشارة إلى سعة رحمة الله، فإن العبد بعد أن أتى بالكفر والمعصية طول عمره، فإذا أتى بالإيمان في آخر عمره يقبل إيمانه، ويمدحه هذا المدح العظيم، ويروى أن الملائكة يقولون لمثل هذا الإنسان: أتيت وإن كنت قد أبيت.
ويروى أنه عليه السلام قال: «لله أفرح بتوبة أحدكم من الضال الواجد، والظمآن الوارد» والمعنى كان الرب تعالى يقول: ربيته سبعين سنة، فإن مات على كفره فلابد وأن أبعثه إلى النار، فحينئذ يضيع إحساني إليه في سبعين سنة، فكلما كانت مدة الكفر والعصيان أكثر كانت التوبة عنها أشد قبولًا الوجه الثاني: في الجواب، روى أن المراد بالناس أهل اليمن، قال أبو هريرة: لما نزلت هذه السورة، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «الله أكبر جاء نصر الله والفتح، وجاء أهل اليمن قوم رقيقة قلوبهم الإيمان يمان والفقه يمان والحكمة يمانية، وقال: أجد نفس ربكم من قبل اليمن».
المسألة الثالثة:
قال جمهور الفقهاء وكثير من المتكلمون: إن إيمان المقلد صحيح، واحتجوا بهذه الآية، قالوا: إنه تعالى حكم بصحة إيمان أولئك الأفواج وجعله من أعظم المنن على محمد عليه السلام، ولو لم يكن إيمانهم صحيحًا لما ذكره في هذا المعرض، ثم إنا نعلم قطعًا أنهم ما كانوا عالمين حدوث الأجساد بالدليل ولا إثبات كونه تعالى منزهًا عن الجسمية والمكان والحيز ولا إثبات كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات التي لا نهاية لها ولا إثبات قيام المعجز التام على يد محمد صلى الله عليه وسلم، ولا إثبات أن قيام المعجز كيف يدل على الصدق والعلم بأن أولئك الأعراب ما كانوا عالمين بهذه الدقائق ضروري، فعلمنا أن إيمان المقلد صحيح، ولا يقال: إنهم كانوا عالمين بأصول دلائل هذه المسائل لأن أصول هذه الدلائل ظاهرة، بل إنما كانوا جاهلين بالتفاصيل إلا أنه ليس من شرط كون الإنسان مستدلًا كونه عالمًا بهذه التفاصيل، لأنا نقول: إن الدليل لا يقبل الزيادة والنقصان، فإن الدليل إذا كان مثلًا مركبًا من عشر مقدمات، فمن علم تسعة منها، وكان في المقدمة العاشرة مقلدًا كان في النتيجة مقلدًا لا محالة لأن فرع التقليد أولى أن يكون تقليدًا وإن كان عالمًا بمجموع تلك المقدمات العشرة استحال كون غيره أعرف منه بذلك الدليل، لأن تلك الزيادة إن كانت جزًا معتبرًا في دلالة هذا الدليل لم تكن المقدمات العشرة الأولى تمام الدليل، فإنه لابد معها من هذه المقدمة الزائدة، وقد كنا فرضنا تلك العشرة كافية، وإن لم تكن الزيادة معتبرة في دلالة ذلك الدليل كان ذلك أمرًا منفصلًا عن ذلك الدليل غير معتبر في كونه دليلًا على ذلك المدلول، فثبت أن العلم بكون الدليل دليلًا لا يقبل الزيادة والنقصان، فأما أن يقال: إن أولئك الأعراب كانوا عالمين بجميع مقدمات دلائل هذه المسائل بحيث ما شذ عنهم من تلك المقدمات واحدة، وذلك مكابرة أو ما كانوا كذلك.
فحينئذ ثبت أنهم كانوا مقلدين، ومما يؤكذ ما ذكرنا ما روى عن الحسن أنه قال: لما فتح رسول الله مكة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: إذا ظفر بأهل الحرم وجب أن يكون على الحق، وقد كان الله أجارهم من أصحاب الفيل، وكل من أرادهم بسوء ثم أخذوا يدخلون في الإسلام أفواجًا من غير قتال، هذا ما رواه الحسن، ومعلوم أن الاستدلال بأنه لما ظفر بأهل مكة وجب أن يكون على الحق ليس بجيد، فعلمنا أنهم ما كانوا مستدلين بل مقلدين.
المسألة الرابعة:
دين الله هو الإسلام لقوله تعالى: {إِنَّ الدّينَ عِندَ الله الإسلام} [آل عمران: 19] ولقوله: {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ} [آل عمران: 85] وللدين أسماء أخرى، منها الإيمان قال الله تعالى: {فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مّنَ المسلمين} [الذاريات: 35، 36] ومنها الصراط قال تعالى: {صراط الله الذي لَهُ مَا في السموات وَمَا فِي الأرض} [الشورى: 53] ومنها كلمة الله، ومنها النور: {لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله} [الصف: 8] ومنها الهدي لقوله: {يَهْدِى بِهِ مَن يَشَاء} [الأنعام: 88] ومنها العروة: {فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى} [لقمان: 22] ومنها الحبل: {واعتصموا بِحَبْلِ الله} [آل عمران: 103] ومنها صبغة الله، وفطرة الله، وإنما قال: {فِى دِينِ الله} ولم يقل: في دين الرب، ولا سائر الأسماء لوجهين الأول: أن هذا الاسم أعظم الأسماء لدلالته على الذات والصفات، فكأنه يقول: هذا الدين إن لم يكن له خصلة سوى أنه دين الله فإنه يكون واجب القبول.
والثاني: لو قال: دين الرب لكان يشعر ذلك بأن هذا الدين إنما يجب عليك قبوله لأنه رباك، وأحسن إليك وحينئذ تكن طاعتك له معللة بطلب النفع، فلا يكون الإخلاص حاصلًا، فكأنه يقول أخلص الخدمة بمجرد أني إله لا لنفع يعود إليك.
المسألة الخامسة:
الفوج: الجماعة الكثيرة كانت تدخل فيه القبيلة بأسرها بعدما كانوا يدخلون فيه واحدًا واحدًا وإثنين اثنين، وعن جابر بن عبد الله أنه بكى ذات يوم فقيل له: ما يبكيك فقال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «دخل الناس في دين الله أفواجًا، وسيخرجون منه أفواجًا» نعوذ بالله من السلب بعد العطاء.
{فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)}
قوله تعالى: فيه مسائل:
المسألة الأولى:
أنه تعالى أمره بالتسبيح ثم بالحمد ثم بالاستغفار، ولهذا الترتيب فوائد:
الفائدة الأولى: اعلم أن تأخير النصر سنين مع أن محمدًا كان على الحق مما يثقل على القلب ويقع في القلب أني إذا كنت على الحق فلم لا تنصرني ولم سلطت هؤلاء الكفرة على فلأجل الاعتذار عن هذا الخاطر أمر بالتسبيح، أما على قولنا: فالمراد من هذا التنزيه أنك منزه عن أن يستحق أحد عليك شيئًا بل كل ما تفعله فإنما تفعله بحكم المشيئة الإلهية فلك أن تفعل ما تشاء كما تشاء ففائدة التسبيح تنزيه الله عن أن يستحق عليه أحد شيئًا، وأما على قول المعتزلة: ما فائدة التنزيه هو أن يعلم العبد أن ذلك التأخير كان بسبب الحكمة والمصلحة لا بسبب البخل وترجيح الباطل على الحق، ثم إذا فرغ العبد عن تنزيه الله عما لا ينبغي فحينئذ يشتغل بحمده على ما أعطى من الإحسان والبر، ثم حينئذ يشتغل بالاستغفار لذنوب نفسه الوجه الثاني: أن للسائرين طريقين فمنهم من قال: ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله بعده، ومنهم من قال: ما رأيت شيئًا إلا ورأيت الله قبله، ولا شك أن هذا الطريق أكمل، أما بحسب المعالم الحكمية، فلأن النزول من المؤثر إلى الأثر أجل مرتبة من الصعود من الأثر إلى المؤثر، وأما بحسب أفكار أرباب الرياضات فلأن ينبوع النور هو واجب الوجود وينبوع الظلمة ممكن الوجود، فالاستغراق في الأول يكون أشرف لا محالة، ولأن الاستدلال بالأصل على التبع يكون أقوى من الاستدلال بالتبع على الأصل، وإذا ثبت هذا فنقول: الآية دالة على هذه الطريقة التي هي أشرف الطريقين وذلك لأنه قدم الاشتغال بالخالق على الاشتغال بالنفس فذكر أولًا من الخالق أمرين أحدهما: التسبيح.
والثاني: التحميد، ثم ذكروا في المرتبة الثالثة الاستغفار وهو حالة ممزوجة من الالتفات إلى الخالق وإلى الخلق.
واعلم أن صفات الحق محصورة في السلب والإيجاب والنفي والإثبات، والسلوب مقدمة على الإيجابات فالتسبيح إشارة إلى التعرض للصفات السلبية التي لواجب الوجود وهي صفات الجلال، والتحميد إشارة إلى الصفات الثبوتية له، وهي صفات الإكرام، ولذلك فإن القرآن يدل على تقدم الجلال على الإكرام، ولما أشار إلى هذين النوعين من الاستغفار بمعرفة واجب الوجود نزل منه إلى الاستغفار لأن الاستغفار فيه رؤية قصور النفس، وفيه رؤية جود الحق، وفيه طلب لما هو الأصلح والأكمل للنفس، ومن المعلوم أن بقدر اشتغال العبد بمطالعة غير الله يبقى محرومًا عن مطالعة حضرة جلال الله، فلهذه الدقيقة أخر ذكر الاستغفار عن التسبيح والتحميد الوجه الثالث: أنه إرشاد للبشر إلى التشبه بالملكية، وذلك لأن أعلى كل نوع أسفل متصل بأسفل النوع الأعلى ولهذا قيل: آخر مراتب الإنسانية أول مراتب الملكية ثم الملائكة ذكروا في أنفسهم {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} [البقرة: 30] فقوله ههنا: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ} إشارة إلى التشبه بالملائكة في قولهم: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ} وقوله ههنا: {واستغفره} إشارة إلى قوله تعالى: {وَنُقَدّسُ لَكَ} لأنهم فسروا قوله: {وَنُقَدّسُ لَكَ} أي نجعل أنفسنا مقدسة لأجل رضاك والاستغفار يرجع معناه أيضًا إلى تقديس النفس، ويحتمل أن يكون المراد أنهم ادعوا لأنفسهم أنهم سبحوا بحمدي ورأوا ذلك من أنفسهم، وأما أنت فسبح بحمدي واستغفر من أن ترى تلك الطاعة من نفسك بل يجب أن تراها من توفيقي وإحساني، ويحتمل أن يقال: الملائكة كما قالوا: في حق أنفسهم: {وَنَحْنُ نُسَبّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدّسُ لَكَ} قال الله في حقهم: {وَيَسْتَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ ءامَنُواْ} [غافر: 7] فأنت يا محمد استغفر للذين جاؤوا أفواجًا كالملائكة يستغفرون للذين آمنوا ويقولون: {رَبَّنَا فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ} [غافر: 7] الوجه الرابع: التسبيح هو التطهير، فيحتمل أن يكون المراد طهر الكعبة من الأصنام وكسرها ثم قال: {بِحَمْدِ رَبّكَ} أن ينبغي أن يكون إقدامك على ذلك التطهير بواسطة الاستغفار بحمد ربك، وإعانته وتقويته، ثم إذا فعلت ذلك فلا ينبغي أن ترى نفسك آتيًا بالطاعة اللائقة به، بل يجب أن ترى نفسك في هذه الحالة مقصرة، فاطلب الاستغفار عن تقصيرك في طاعته والوجه الخامس: كأنه تعالى يقول يا محمد إما أن تكون معصومًا أو لم تكن معصومًا فإن كنت معصومًا فاشتغل بالتسبيح والتحميد، وإن لم تكن معصومًا فاشتغل بالاستغفار فتكون الآية كالتنبيه على أنه لا فراغ عن التكليف في العبودية كما قال: {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} [الحجر: 99].
المسألة الثانية:
في المراد من التسبيح وجهان الأول: أنه ذكر الله بالتنزه سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن فقال تنزيه الله عن كل سوء وأصله من سبح فإن السابح يسبح في الماء كالطير في الهواء ويضبط نفسه من أن يرسب فيه فيهلك أو يتلوث من مقر الماء ومجراه والتشديد للتبعيد لأنك تسبحه أي تبعده عما لا يجوز عليه، وإنما حسن استعماله في تنزيه الله عما لا يجوز عليه من صفات الذات والفعل نفيًا وإثباتًا لأن السمكة كما أنها لا تقبل النجاسة فكذا الحق سبحانه لا يقبل مالا ينبغي ألبتة فاللفظ يفيد التنزيه في الذات والصفات والأفعال والقول الثاني: أن المراد بالتسبيح الصلاة لأن هذا اللفظ وارد في القرآن بمعنى الصلاة قال تعالى: {فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17] وقال: {فَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس} [طه: 130] والذي يؤكده أن هذه السورة من آخر ما نزل، وكان عليه السلام في آخر مرضه يقول: «الصلاة وما ملكت أيمانكم» جعل يلجلجها في صدره وما يقبض بها لسانه، ثم قال بعضهم: عنى به صلاة الشكر صلاها يوم الفتح ثمان ركعات وقال آخرون: هي صلاة الضحى، وقال آخرون: صلى ثمان ركعات أربعة للشكر وأربعة الضحى وتسمية الصلاة بالتسبيح لما أنها لا تنفك عنه وفيه تنبيه: على أنه يجب تنزيه صلاتك عن أنواع النقائص في الأقوال والأفعال، واحتج أصحاب القول الأول بالأخبار الكثيرة الواردة في ذلك، روت عائشة كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه السورة يكثر أن يقول: «سبحانك اللهم وبحمدك استغفرك وأتوب إليك»، وقالت أيضًا: كان الرسول يقول كثيرا في ركوعه «سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي» وعنها أيضًا كان نبي الله في آخر أمره لا يقوم ولا يقعد ولا يذهب ولا يجيء إلا قال: «سبحان الله وبحمده فقلت يا رسول الله إنك تكثر من قولة سبحان الله وبحمده قال: إني أمرت بها»، وقرأ: {إِذَا جَاء نَصْرُ الله} وعن ابن مسعود: «لما نزلت هذه السورة كان عليه السلام يكثر أن يقول: سبحانك اللهم وبحمدك اللهم اغفر لي إنك أنت التواب الغفور» وروى أنه قال: «إني لأستغفر الله كل يوم مائة مرة».